بقلم / رحاب علي ـ مصر
أربعون عاماً لم ترد فيهم كنيسة أبدا، لم تنر شمعة ولم تجلس أمام مذبح، كانت أمسية خريفية مبهمة، شجر متساقط الأوراق، وحر قائظ لا علاقة له بالخريف على أي حال، كان جبينها الخمري يتصبب عرقاً، وعينها نصف مغلقة أمام بقايا الشمس التي تشير الساعة إلى موعد رحيلها، بعكس ما تعلن قوة سطوعها. وقفت بنفس ذلك التردد الذي لازم أعوامها الأربعين إلا القليل الذي لم تكن تعي فيه الفرق بينها وبين القطة التي أتت بها أمها للبيت لطرد فإران المنور بعوائها، نظرت لذلك الصليب الخشبي المنحوت على باب الكنيسة العتيق، ومدت بصرها لما خلف الباب، من مهابة الإله وقوة حضوره في نفوس الداخلين والخارجين، إنه حقا بيت الرب ومقر تمجيده، وكما يعظم الله بقلوب البشر كانت بيوته قلوب أخرى يُمجَّد فيها.. هكذا كان حديث نفسها ولسان قلبها يتكلم. خطوة ثم أخرى وكانت داخل بالداخل، بقلب القلب الذي يمجد فيه الرب. أشعله شمعه عند قدمي العذراء وبادلتها نظرات المحبة. هناك قس يجلس أو أيا كان من خدام الكنيسة لا تعلم عن ألقابهم شيء قس ام راهب ام شماس ام ماذا لا تدري لكنها ذهبت إليه بتلك الخطى المترددة التي جرتها للداخل، ودون ذكر لقب او إلقاء تحية سألته : أود أن أعترف وهذه أول مرة لي ببيت الله، فماذا أفعل وأين أذهب؟ بنظرة يملأها السؤال أخبرها أن تتبعه. أجلسها على مقعد خشبي مستدير أمامه جدار من الخشب المشغول عتيق التراز وأخبرها أن تنتظر. جلسة برهة كادت فيها أن تغادر هذا المكان العتيق المعبأ بذكر الإله والذي كان يذكرها بصوت القرآن الآتي من راديو الصباح في المحال والبيوت وبتلك الهمهمات في صلاة التهجد في رمضان. كادت تقف إلا أن الصوت الرخيم الآتي من خلف الجدار الخشبي أجلسها بقوله تكلمي يا ابنتي. بدأت بنفس ترددها المزمن... أبتي أود أن أعترف، أود أن أتخلص من ذلك الهم المطبق على أنفاسي. لم تدع الاب خلف الجدار يتحدث فما إن فتحت فمها حتى استرسل لسانها في الاعتراف، لم يكن اعترافا بل كانت قصتها مع حياة أخذت من روحها وأعطت، بدلت شخصيها بين الجيد والاجود والسيء والأسوأ. أفرغت اربعين عاما في نفحة من صدرها لذلك الشيخ خلف الجدار الذي جلس مع سنه المتقدمة واحتمل ثلاث ساعات من الحديث الذي يحمل هما وفرح وذنوب كبار وصغار وتوافيه ومعجزات أيضاً. كانت زفرة نهاية الحديث كأنها زفرة من فك قيده أو من أمضى عمره في قبو يتنفس هواءه هو مرارا وتكرارا وذات يوم صعد للسطح ليتنفس هواء الدنيا فأراد أن يخرج كل ما علق في صدره من بقايا هوائه القديم. لم تنتبه لنصح الأب خلف الجدار ولا إلى ما قاله من أن تعود لله وأن تواظب على زيارة الكنيسة وحضور القداسات كي يحميها الرب من الشيطان ووسوسته. التفتت بعدما أنهى حديثه الروحاني الذي لم توله انتباه بالغ بالرغم من ضرورته لراحة نفسها من تلك العذابات التي دخلت لأجلها الكنيسة. وقفت على قدميها وأدخلت أصابعا بشقوق الجدار الخشبي ونظرت للداخل لتتبين ذلك العجوز الذي تحملها بكل هذا اللطف شكرته وقالت أبتي.. لدي اعتراف أخير؟ ماذا.؟ أنا لست مسيحية.. أنا مسلمة. وابتسمت وذهبت بخطى خفيفة عكس التي دخلت بها. إنها نفس الراحة التي إعادتها بعد صلاة طويلة في جوف الليل، أو بعد بكاء في سجده الوتر. إنها رحمة الله هي الحاضرة في كل الأماكن. على سجادة الصلاة، أو في موضع السجود، أو هناك أمام الجدار الخشبي.
نوره
مقالات صداكم الإلكترونية